تشكيلية - أدبية
تصدر أول كل شهر
 

العدد
الواحد والخمسون

01 يونيو 2009
السنة الخامسة
 

رئيس التحرير : فتحي العريبي CV


 

الكراسي الفارغة



مراد بوكرزازا - الجزائر (*)


 

أيتها الكراسي الفارغة . صدقيني . أنا لا أبالغ . لا أغالي
الأمر هنا لا يحتاج للغة ، لأسلوب ، لتسلسل . الأمر هنا يتعلق بالحقيقة
                                                                                ( م.ب )

 

أيتها الكراسي الفارغة (**) ، معذرة إن جرحت صمت القاعة فيك ، أعرف أنهم يحبونك ، بصخبهم ، بفوضاهم ، ينتظرون ، يهللون ، يصفقون ، وكثيرا ما يرقصون ، ثم ينصرفون.

أجيء أنا ، الليلة من ضجيج الداخل ووجع الذي يحدث ، لا أحتاج ضوءا أو ديكورا ، لا أريد لونا أو موسيقى.

أجيء كما أنا ، بكل التعب الممكن ، بملابسي القديمة ، وهذي الغصة التي تكبر الركح بقليل ، أقول كلاما ، أو لغوا ، أتفجر في حضرتك دفعة واحدة قبل أن أقول للموت : بإمكانك أن تدخل.

أيتها الكراسي الفارغة ، لا تتعجلي ، الأمر لا يتعلق بدور درامي بـ ( بروفة ) لا . أقسم لك بيأسي الجبار وكل الذل والضعف الذي أشعر به اللحظة.

أيتها الكراسي الفارغة ، احتمليني هذه الليلة ،  ولك أن تختفي

إنسان أنا ، لا أشبه كل الناس ، حلمت منذ الطفولة الباكرة بحبة حلوى وبذلة تليق بالجسد الصغير ، حلمت بعصفور يغرد من أجلي ، حلمت ببيت فيه أم وفيه أب ، لكني كبرت بعدها بألف دمعة ، كل حلم كنتُ أدفنه في صمت . لهذا كبرت هكذا  عامرا بالعقد ، بالخوف ،  والبرد.

أيتها الكراسي الفارغة ،  ربما كانت هذه فرصتي الأخيرة ، كي أقول ، من يدري؟ . مر التاريخ ، على جثتي ، ظلت الأماني تودعني واحدة بعد أخرى حتى ألتقيها ، غفوت في عينيها عمرا ،  ثم تخلت عني حشرة صغيرة عافني رمشها ، لم أستوعب الحكاية ، كانت الأسئلة  ،  كانت المرارة ، ثم كان البكاء.

عند البدء كتبتها حرقة مكابرة لكنها انتشرت في دمي ،  تكاثرت ،  صارت الليل ، المدن التي أزور والتي لم أر ، صارت المطر ، الطريق ، كل الدروب ، والغاية التي لن أدرك . بعدها أخذت شكلا مميتا مغايرا ، صارت الكأس ، الغياب الذي يحيل لحضور قاتل ، وصارت الذي صارت.

أيتها الكراسي الفارغة ،  لم أكن يوما مولعا بالعشق ، وقصص الوجد ، لكني أقول ، الذي أشعر به . آلاف تعاقبوا على الركح ، قالوا الفرح ، الحزن ، الموت ، الحياة .  لي الحق في أن أصرخ الآن بكل الألم فيّ : آه .

أمسى لأخبار الدم والخراب : مئة قتيل في مجزرة وحشية ، عشرات الأطفال يذبحون ،  انفجار أكثر من عشر قنابل ، عدد الضحايا في تزايد مستمر . لا يمكن أن أطيل السهر خارج البيت ، لا يمكن أن أثق في أقرب الأصدقاء ، لا يمكن.

أيتها الكراسي الفارغة، أصر على أني لا أتحدث عن فيلم خيالي أو نص يكسر روتين النصوص المتداولة ،  لكني أنقل لك وشوشة الرصيف ، سر انحناء الأشجار ، وإضراب العصافير عن الغناء أو بناء الأعشاش.

أيتها الكراسي الفارغة ، سأنصرف الآن

أيتها الكراسي الفارغة ، يوم غادرت الجامعة ، كنت عامرا بالحلم ،  والحياة . قلت : سأصير محاميا أدافع عن المظلومين والمقهورين ،  سأحارب الظلم ، الرشوة والقهر . لكني انتهيت إلى الصحافة ، فتحت قلبي وصفحاتي لأنات الناس ، كنت محاميا على طريقتي ، لكنهم كسروا الناي ، قطعوا جناح البلبل الذي كنت أخبئ للشتاء الأخير ، وأحرقوا رسائل الأطفال وصورهم ، عندها حملت دمعة أمي وبعض الصور القديمة وغادرت.  رفضتني كل المطارات، كل المحطات   أرصفة بلاد الآخرين صرخت في وجهي: ليس من عادة تربتنا أن تحتضن نبتة للجراح والعويل . فعدت ،  عدت سنبلة مقهورة ، لا تجرؤ على أن تحيِّي النسيم . رأيت الكراسي الفارغة ، كم أنا مهزوم ،  مكسور ،  ووحيد.

أيتها الكراسي الفارغة ، احتمليني هذه الليلة ،  ولك أن تختفي ،  أن تنهاري ، أن يغرقك الطوفان ، أن تندثري ، فذاك القرار السليم ، لن تندمي غدا . ربما جاءك المصفقون ،  كي يحرقوا حطبك بالدجل والهراء ،  حطبك ، يكون قد أحضره حطاب فقير . حطبك ، يكون قد صنعه نجار وحيد.

أيتها الكراسي الفارغة ، بعد الذي حدث ، وجدتني بقلب ليل ، فيه صوت صفارة إنذار ، صوت صرصور ، وصوت موت . عادة ما يجيء صامتا.

أصدقائي . ودعتهم ، في العتمة الماطرة والمقمرة - على حد سواء - بعضهم عاد بجنون . بعضهم عاد بعاهة مستديمة .  والبعض الآخر عاد . لا . لم يعد.

أيتها الكراسي الفارغة . صدقيني . أنا لا أبالغ . لا أغالي . الأمر هنا لا يحتاج للغة ، لأسلوب ، لتسلسل . الأمر هنا يتعلق بالحقيقة.

بعد الليل العصيب . وجدتني بالجريدة من جديد .الجريدة القديمة التي قد تغلق أبوابها . مازال الظالمون والرديئون سادة الوقت والمكان . في بيتي البسيط الزهيد الذي لا يزيد عن غرفة ضيقة واحدة . ثمة قطعة من روحي ، يأكلها مرض خبيث : السرطان . كل لحظة . كل ليلة قبل أن أنام ، أودّعها استعدادا للرحيل الكبير.

عاد السفر من جديد يملأ حقائبي بالشوق الباكر . وصباحات المدن التي لا أعرف . يجب أن أغادر هذا الخواء المهول ، هذا الفراغ المتوحش . أموت جدا إن مكثت بعض الوقت هنا . ليس من حقي أن أحب - من جديد -ليس من حقي أن أتزوج . الأشجار في حيِّنا عارية تماما . أخاف على عشي من الاندثار . إن كنت تقدّرين موقفي - أيتها الكراسي الفارغة - فامنحيني تذكرة للغياب الجليل ، وابكي يوما إن عادت جثتي ملفوفة في غصتها.

أيتها الكراسي الفارغة ، سأنصرف الآن . لا أحتاج لضوء ، لستار . لا أحتاج تصفيقا . سأخرج في صمت ، تماما كما دخلت . وإن منحوك الفرصة ، قولي لهم : الكراسي الفارغة كانت النص الوحيد الذي استوعب خيبة الدنيا . خراب المعاني . وفوضى المواقيت.



أيتها الكراسي الفارغة : ...........................................

(*)- مراد بوكرزازا
ـــــــــــــــــــــــــــــ

 
ليسانس في الحقوق والعلوم الإدارية جامعة قسنطينة عام 1989
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يكتب القصة القصيرة منذ 1983
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في عدة صحف وطنية منها : الشعب، أضواء ، الشروق العربي ، النهار ، المساء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما نشر في عدة جرائد ومجلات عربية بتونس ولبنان والأردن والكويت والسعودية والمغرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



 من إصداراته
ــــــــــــــــــــــ

شرفات الكلام - رواية منشورات الفارابي 2001
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الربيع يخجل من العصافير - مجموعة قصصية 2004
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموعة قصصية بالفرنسية: دار
publibook…paris france 2007
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
له مخطوطان : واحد في القصة - والآخر في الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(**)- نقلا عن :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

http://www.arabicnadwah.com/shortstories/karasi-murad_boukerzaza.htm
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


 


 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهرس محتويات العدد الواحد والخمسون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحق ثقافية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 أرشيف المجلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 التعريف بها وشروط النشر علي صفحاتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
سجل الزوار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
للاتصال بنا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 الصفحة الرئيسية - home
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

جميع الحقوق محفوظة لـ  مجلة كراسي www.kraassi.com ولا يسمح بنقل أي جزء من نصوص وصور وموسيقي هذه المجلة والمنشورات الصادرة عنها إلا بإذن كتابي ، فيما عدا حالات الاقتباس القصيرة بغرض النقد أو التحليل وفقا للقواعد التي تفرضها الأصول العلمية .

 كراسي : أول مجلة لها سبق الريادة باللغة العربية وفي جميع لغات العالم
 
المتخصصة في أدبيات وفنون الكرسي والكراسي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
كرسي قديم جاه جديد محاه نين تأثيره أغبي
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
اللي ما تردي مات أصحاب الكراسي راحوا  كلهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



 
^ ^ الانتقال إلي أعلي الصفحة ^ ^